وإنّه لفي منتهَى الغرابة حقّاً أن ترى الناس ــ والمتمدنين منهم على الأخص ــ يتهالكون في تنظيف أبدانهم وملابسهم ومساكنهم ، ويحرصون أشدّ الحرص على أن يكون كلّ ما يأكلون ويشربون خالياً من الغشّ والوسخ ، في حين لا يأبهون بالقواذير التي في قلوبهم . فكأن قلوبهم ليست منهم ، وكأنّ ما فيها من قذارة لا يتّصل بهم من قريب أو من بعيد . فواحدهم يُصعق خزياً ويتمنى لو تنشقّ الأرض وتبتلعه إذا أنت أبصرت قملةً ترعى في رأسه ، أو بقّة تدرج على وسادته ، أو شعرة في فنجان قهوة يقدمه لك ، أو سواداً تحت ظفره . ولكنّه لا يبالي على الإطلاق بالثعابين والعقارب والديدان يربيها في قلبه فتنهشه نهشاً ، ولا بالجيف المكدّسة في أفكاره ، ولا بالعفن تحمله قطرات دمه إلى قلبه ومن هناك توزّعه في كلّ ناحية من نواحي جسمه .
ويبالغ البعض في النظافة والأناقة ، فيستحمّ أكثر من مرّة في النهار ، ولا يطيق ذرة غبار على ثوبه أو حذائه ، ولا يهنأ له نوم إلّا بين ملاءتين طهرتهما الصابونة والشمس والهواء . أما أنّه يسير بين الناس وفي قلبه مزابل ، وفي فكره أكداس من الغبار ؛ وأما أنّه يأوي إلى فراشه النظيف بروح تلبّد فيها الوسخ فذلك لا يقلقه في النهار ولا يزعجه في الليل .
ويمرض أحدهم فيبادر إلى فحص دمه ليعرف إذا كان ملوّثاً بجرثومة من الجراثيم التي تسبب طائفة من الأمراض الفتّاكة كالتيفوئيد والملاريا والسلّ وفقر الدم وغيرها . حتى إذا عرف نوع الجرثومة عالجها بالدواء الذي يظنّ أنّه يقضي عليها . فالجراثيم في الدم هي أوساخ لا بدّ من القضاء عليها إذا نحن شئنا أن يبقى الجسم سليماً . وإذن فالدم النقيّ هو شرط أساسيّ من شروط العافية وسلامة البدن . ولكن الطب الذي أدرك هذه الحقيقة ما أدرك بعد حقيقة أهمّ منها بكثير . وهي أن الدم قابل للتلوّث بجراثيم أشدّ هولاً وفتكاً من الجراثيم التي تنقف منها الأمراض . وهذه الجراثيم لا تبصر بالمكروسكوب ، ولا تستطاع معالجتها بأيّ من العقاقير .
#دروب
#ميخائيل_نعيمه